الجنبية.. تراث يمني عريق بات عنوان هوية الشعب اليمني التي يعرفه بها العالم في كل مكان.. وهي أيضاً زينة الرجال التي يتحلون بها في أغلى مناسباتهم، وهي خزينة - أي ثروة- قد تصل قيمتها لبضع ملايين الريالات.. "
الجنبية.. أصالة تتلاشى على بوابة المعاصرة
بالنسبة إلى رجل يقطن الجبال الشاهقة فيمتزج بوعورتها وصلابتها،
فإن السلاح يصبح جزءاً من شخصيته. لكن الأمر بالنسبة إلى (الجنبية)
في اليمن أكبر من كونها سلاحاً بكثير. إنها جانباً هاماً من النسيج الثقافي
الموغل عميقاً في تأريخ بيت العرب القديم.
في هذا التحقيق نتعرف إلى بعض الجوانب المرتبطة بهذا الجزء من ثقافة
اليمني. التسمية والظهور يرجح المؤرخون السبب في تسميتها بالجنبية
إلى أن المتمنطق بها يضعها على جنبه فأصبحت وكأنها جزء لا يتجزأ من
كيانه ترافقه الساعات الطوال من حياته.
وتشير الدلائل التاريخية إلى أن بداية ظهورها كان في الألف الثالث قبل
الميلاد يؤكد ذلك شواهد قبور لا تزال موجودة في محافظة حضرموت
تحديداً في منطقة الجول الجنوبي كمسلات ضمن الأحجار الدائرية التي
تحدد القيود القديمة من تاريخ وقتها منحوت عليها شكل الخنجر الهلالي
وتعد هذه الشواهد من أقدم الشواهد على الإطلاق وربما يؤول تاريخها
إلى القرن السابع قبل الميلاد وهو ما يكشف عنه تمثال "معدي كرب"
والذي يظهر فيه شكل الجنبية في صورتها الأولى.
ومما يذكر أن الجنبية اليمنية في بداية عهدها كانت تشبه السيف في
تصميمها إلا أن رؤية الصانع اليمني وذوقه الفني أدى إلى أن تمر
الجنبية في تشكيلات عدة في مراحل تطورها حتى وصلت إلى الهيئة
الحالية التي هي عليه الآن، إذ من المرجح أن تكون الجنبية امتداداً
للخنجر اليمني التي بدأت صناعته في اليمن منذ العهد السبئي والذي
اقتضت التحولات التي مر بها العهد المعيني فالحميري فالقتباني ثم الإسلامي
وصولا إلى العصر الحديث أن يأخذ تلك الصورة التراثية البديعة التي
أصبحت تطلق عليها فيما بعد باسم الجنبية.
مكونات الجنبية:
وقد تفنن اليمنِّيون في صناعتهم للجنابي وجعلوها عامرةً بالنقوش
والزخارف الفنية الرفيعة التي جعلت منها تحفة غالية الأثمان
فأصبحت تمثل مصدر دخل الكثير من الأسر وعامل جذبٍ للكثير
من الزائرين والسياح. وتتكون الجنبية من الرأس ويسمى رأس
الجنبية وهو الجزء الذي يتوقف عليه قيمة الجنبية فهو بذلك أهم
أجزائها.
ويصنع رأس الجنبية من بعض قرون الحيوانات وعظام الزراف وحوافر
الجمال والمواد البلاستيكية والخشب، وهناك العديد من أنواع الرؤوس
فمنها الصيفاني وسمي صيفاني لشدة صفائه ورونقه ويسمى أيضاً القلب لأنه يؤخذ من لب قرن وحيد القرن ويأتي بالدرجة الثانية الأسعدي الذي قيل
بأنه يرجع إلى أحد ملوك اليمن القدماء وهو الحاكم أسعد الكامل،
والزراف يأتي بالدرجة الثالثة ويصنع من بقية أجزاء القرن المتبقية
وأيضاً الكرك ويصنع من قرون البقر، والرؤوس التي تصنع من القرون
والعظام لا تتغير أحوالها بمرور الزمن بقدر ما تزداد من الجمال والبهاء
والرونق، وتستورد قرون وحيد القرن من – كينيا- ودول القرن
الأفريقي- والهند أما قرون البقر فمتوفرة محليا، إلا أن أروع هذه
الرؤوس وأغلاها ثمنا الصيفاني لما يتمتع به من مميزات لأنه وبمرور
الوقت يكتسب جمالا وقيمة كما أن كثرة اللمس والاستخدام يضفي
عليه المزيد من البهاء إذ يتغير لونه من قاتم إلى فاتح إلى شفاف كالزجاج.
ولعل السبب الخفي في ارتفاع ثمن هذا النوع في الآونة الأخيرة قرار
منظمة حماية حقوق الحيوان الذي قضى بمنع استيراد قرون وحيد القرن
خوفاً عليه من الانقراض.
* أشكالها:
- تختلف أشكال الجنبية من منطقة إلى أخرى فمنها البدوية التي تلبس
غالبا في مأرب وشبوه والبيضاء والبدوية الحضرمية التي تزين بشكائم
ذهبية مغطاة بالذهب الحميري في أعلى الرأس ووسطه لتزيدها أناقة
وجمالاً ويوجد أيضاً الفاتح من أعلى الجنبية وصدرها وكثيراً ما ينتشر
في المناطق الوسطى كما يفضلون ايضا لبس نوع الزراف.
* الصناعة:
- يتم صناعة رأس الجنبية بطريقة يدوية وبآلات بسيطة حيث يقوم
الحرفي بتقطيعه ونحته وصنفرته، وصناعته على الشكل المطلوب وتتم
هذه العملية في الرؤوس المصنوع من رأس الحيوانات والخشب وبالنسبة
للرؤوس البلاستيكية فتصب في قوالب بعد صهرها.
ومن ثم يتم تزيين رأس الجنبيه بقطعتين من الذهب الحميري او الفضة
يسميان بالزهرتين وهما على شكل جنيهات ذهبية دائرية الشكل تثبت
من الخلف بقضيب او مسمار من النحاس او من نوع هذه الزهرة وقد
تكون هذه الزهرات من الحديد أو الفضة المصبوغ باللون الأصفر او الأحمر
الباهت تصك عليها رسومات وأشكال مختلفة منها فارس على صهوة جواده
ويحيط بأسفل رأس الجنبية ما يسمى بالمبسم وهو إطار معدني مستيطل
الشكل يصنع غالباً من الذهب والفضة أو كليهما أو المعدن.
تأتي بعد ذلك المرحلة المكملة للجنبية وهي نصل الجنبية، وهو عبارة عن
قطعة معدنية حديدية بالغة الحدة في كل من وجهيها خط مجوف إلى الأعلى
يسمح بدخول الهواء في جرح المطعون بالجنبية ويؤدي إلى إصابة الجرح
بالتسمم ومن أنواع النصال الحضرمي والجوبي- والينز- والعدني- والزنك-
والمْبرد- وتلعب النصلة دوراً كبيراً في تحديد قيمة الجنبية، تصنع النصال
في رداع وصنعاء- وذمار- وحضرموت وغيرها من المدن اليمنية وأفضل
أنواعها الحضرمي.
ويتم صناعة النصل بطريقة يدوية حيث يتم توسيع النصل عن طريق
الطرق وكذا القيام بطرق سنة وثقبها بعد ذلك يتم صنفرتها وصقلها
وتلميعها وتجهيزها لعملية الإلصاق برأس الجنبية، ثم يصب بعد ذلك
اللحام الذي يتكون من الليان والرماد والزيت في مبسم الجنبية من
أجل تثبيتها بإحكام شديد وللحفاظ على الجنبية وإعطاءها المنظر
الجميل الأخاذ صنع الإنسان اليمني الجراب او العسيب وهو الغمد
المصنوع من الخشب التي تصنع منها الغمد الثالوث والعشار والخشب
والأغمدة نوعان الحاشدي وهو أكثر انتشارا حيث يتميز بصغر زاوية
انحناء مؤخرة الغمد وشكله يشبه حرف اللام وهو أكثر استخداما في
الوقت الحالي والآخر بكيلي وهو على شكل حرف الراء وهو يشبه
غمد السيف ويكاد يقتصر لبس مثل هذا النوع على طبقة العلماء
القضاة.
الحزام كما يظهر الإبداع الزخرفي والفن التشكيلي والحرفي الذي
صنعته يد فنان ماهر على حزام الجنبية وهو آخر الأجزاء التي يبدوا
من خلالها هذا الموروث الشعبي اليمني الأصل في أبهى حلة إنفرد بها
الإنسان اليمني دون غيره من سائر الشعوب.
* أنواعها:
هناك العديد من هذه الأحزمة فمنها المتوكلي وترجع تسمية هذا
الحزام للإمام المتوكل، وكذا الكبسي والطيري، والمركزي.. والمرهبي،
وهو الأردأ والأرخص ثمناً وتتفاوت الأحزمة تبعاً لتفاوت واختلاف
أنواع الخيوط المستخدمة في تطريزه وجودة الصنعة وجمال الشكل
وتتطرز غالبية الأحزمة بالخيوط الذهبية والتي تسمى (بالسيم)
والسيم نوعان الأصلي والعادي ويتم الرسم الأولى للحزام على قطعة
من القماش يتم تطريزه بالنقوش وأجمل أنواع هذه الأحزمة هو
المفضلى وسمي بهذا الإسم نسبة إلى بيت المفضل المشهور بصنع هذا النوع،
أما الأحزمة التي تستخدم باستخدام الآت الخياطة الحديثة فليس
لها أي قيمة معنوية تذكر.
* مكانتها الاجتماعية:
إن للجنبية مكانة ذات قيمة اجتماعية في أوساط المجتمع اليمني فقد
استخدمها لأغراض الزينة والقتال وتحولت عبر مضي الزمان مفخرة
يبالغ الإنسان اليمني في ثمنها الذي قد يصل إلى مهر مائة عروس أحياناً
بل وأكثر من ذلك وإذا كان ثمن السلعة العادية ينخفض عندما تصبح
قديمة إلا أن ذلك لا يجري على الجنبية مما يمدها بالنظارة والبهاء،
فتغدو تحفة أثرية ذات قيمة عالية. وهناك جنابي مرت عليها قرون
كاملة وهي تنتقل بالوراثة من جيل إلى آخر لتصبح رمز العائلة التي
ورثتها عن الآباء والأجداد.
إن اليمني الذي يرث جنبية قديمة يحافظ عليها كجزء من مقوماته
الشخصية ولا يبيع جنبيته فبيعها عار والإنسان الذي يحمل الجنبية
الصيفاني فإن قيمتها المعنوية تشعره بالزهو والافتخار الزائد، ومهما
كان الإنسان اليمني مدججاً بالسلاح فإن ذلك لا يغنيه عن الجنبية
لأن الناس لا ينظرون إلا إليها فتقديرها وحبها يصل إلى درجة العشق
إنها الإنسان اليمني بتاريخه ومصدر فخره وفطانته.
ويظهر ذلك جلياً في عاداته وتقاليده فهي أساس مهنته تحكي إذا
وضع اليمني يده مهدداً مرآة ثقافة وتتحدا إذا إستل نصلها وتصرخ إذا
سحبها كلها من غمدها. ولا تقتصر علاقة اليمني بهذا الموروث بوصفه
على خاصرته فقط بل بمشاركته الأفراح والاتراح. ففي الأعراس
والمناسبات الشعبية والوطنية تلعب الجنبية دوراً بارزاً في إبراز
التراث اليمني يتضح ذلك عندما استخدمها في الرقص الشعبي كرمز
للفن والذوق اليمني، فعندما يراها الناظر تتمايل بخفة ورشاقة بين
يدي المهرة من الراقصين على وقع الطبول يدرك أن بينها وبين
اليمني علاقة حميمة، وأبدية حافلة بالمهارات. كما تستخدم في بعض
المناطق كقباض رهن لما لها من قيمة مادية وعرفية فإذا احتاج شخصاً
مبلغ من المال قام برهن جنبيته إلى أجل معلوم.
إلى جانب هذا فهي تلعب دوراً مهماً في توطيد العلاقات الاجتماعية
حيث يظهر ذلك جلياً في عادات وتقاليد القبائل اليمنية التي
يستخدمونها "كعدال" با لمعنى اليمني الشائع لحل الخلاف أو المنازعات
الشخصية. ولمكانتها في نفوس الشعب ووقع أثرها فيه هناك مقولة
انتشرت بين صفوف القبائل مفادها إن الإنسان يقدر بجنبيته
والجنبية تثمن بصاحبها مما يذكر أن أحد مشائخ اليمن اشترى
جنبيةً يرجع تاريخها إلى العام (672هـ) كانت للإمام شرف الدين
بمبلغ مليون دولار أمريكي.
ولكن ما نراه اليوم ونلحظه أن أهميتها بدأت تتضاءل في أوساط
الشباب اليوم سواء في لبسها أو في عاداتها وتقاليدها مما ترك
تساؤلات عدة حول أسباب التخفي عن هذا الزي الشعبي الأصيل
الذي يمثل موروث شعب، وربما يعود ذلك إلى أن الجنبية أضحت
سبباً للعديد من المشاكل والإصابات الدامية، وأن التأثر بثقافة
الآخرين هو السبب، أم أن سعرها أصبح خيالياً، وهذه أعتقد بأنها
بعض الأسباب التي بدأت تنتشر في أوساط المجتمع اليمني.
وختاماً نرى أن الجنبية أصبحت تعبر عن أصالة شعب عريق مرتبطةً به
يتوارثها الأبناء أجيالاً مديدة لتكون شاهدة على فن لا تمحوه مآثر
الزمان يحكي قصة شعب عريق وماض خالدٍ مجيد إنها أصالة الماضي
وكنز الحاضر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق