من السهل على الإنسان أن يقطع المسافات البعيدة مشيا على الأقدام، ولكن من المستحيل أن يقفز بجسمه مجردا إلى الأعلى أو أن يقفز إلى الأسفل دون وسيلة، ومن السهل عليه تناول فاكهة الشتاء في الشتاء وفاكهة الصيف في الصيف، ولكن يستحيل عليه تناول فاكهة الشتاء في الصيف إذا ما اشتهاها في الآن واللحظة، ومن السهل عليه أن يستقل طائرة تقله من مكان إلى آخر، ولكن يستحيل عليه أن يستقل الهواء بجسمه أو يركب بساط الريح ينتقل فوق المدن والأقطار. وهكذا يسهل في جانب ويستحيل في جانب آخر، لأن السهولة خاضعة لنواميس الأرض والطبيعة، في حين تمنع هذه النواميس من تحقيق المستحيلات لأنها خلاف الخلقة والوجود.
ولكن هذه المعادلة المُحكمة لها أن تنفتح مغاليقها وتتلوى أعمدة سياجها، بمجرد أن يخلد الإنسان إلى النوم خفيفه أو ثقيله، فتصبح المستحيلات في عالم الوجود والشعور ممكنة في عالم اللاشعور المنفلت عن عقال الأرض وأوتادها، عالم يقطع فيه الإنسان المسافات البعيدة في انطلاقة ربما أسرع من الضوء، ويفوق في طيرانه أسرع مركبة فضائية أوجدها العقل البشري، انه عالم الأحلام صادقها وكاذبها، عالم لا تحده حدود الأرض يصبح فيه كل شيء ممكنا، يعود القهقريا إلى الزمن الماضي، ويستشرف المستقبل، فتصدق في بعضها وتخيب في أكثرها.
عالم الماورائيات
هذا العالم المخملي المتضارب في اتجاهاته بين أحلام وردية تأخذ بصاحبها بعيدا نحو سماء الأمنيات، وبين أحلام رمادية تجذب بصاحبها إلى وديان المعاناة، وبينهما رؤى صادقة، يناقشه الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي في كتابه "الرؤيا مشاهدات وتأويل" في جزئه الأول، الصادر عن المركز الحسيني للدراسات بلندن، في 540 صفحة من القطع الوزيري، حيث أفرد مقدمة من نحو مائتي صفحة لبحث حقيقة النوم والنوم المغناطيسي وطرق النوم المثلى وما يصدر عن النوم من أحلام وأطياف ورؤى، وحقيقة النوم والرؤى من الناحية الفلسفية والعلمية والعقيدية، ودور الإرادة والإيمان في نوع المنامات والرؤى، ليدخل بعدها في إيراد ثلاثة أنواع من الرؤى على علاقة مباشرة بالنهضة الحسينية وشخص الإمام الحسين (ع)، باعتبار أن الرؤيا من المبشرات يراها الإنسان المحظوظ في عالم الرقاد، وكما جاء في مسند أحمد بن حنبل:1/288، قال النبي محمد (ص): (أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له)، أو قوله (ص)، كما في مسند ابن حنبل:1/410: (الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة). على إن الرؤيا في ذاتها كما يذهب المصنف: "ليست من المسائل الاعتقادية التي يؤثر الإعتراف بها سلباً أو إيجاباً في العقيدة شيئا".
وكما إن اليقظة عالم الماديات والحواس الظاهرة في جسم الإنسان، تنتج عنها أفعال وإرادات من سنخ الأرض والحياة الدنيا، فان النوم عالم الماورائيات غير الظاهرة، تنتج عنه أفعال وإرادات غير خاضعة لسنخية الأرض، وان كانت في صورها العامة لا تخرج عن مظاهر هذه الدنيا، على إن النوم حالة رقود جسم الإنسان وانخفاض عمل الحواس إلى أدنى مستوياتها، وله مرادفاته ومستوياته، فمنها: الخفقة، النعاس، الكرى، السِّنة، الغفوة، الرقاد، والسبات، ويرى النيسابوري (350-429 هـ) أن عملية النوم تمر بمراحل، فعنده: "أول النوم النعاس، وهو أن يحتاج الإنسان إلى النوم، ثم الوسن وهو ثقل النعاس، ثم الترنيق وهو مخالطة النعاس العين، ثم الكرى، والغمض وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليقظان، ثم التغفيق وهو النوم وأنت تسمع كلام القوم، ثم الإغفاء وهو النوم الخفيف، ثم التهويم والغرار والتهجاج وهو النوم القليل، ثم الرقاد وهو النوم الطويل، ثم الهجود والهجوج والهيوع وهو النوم الغرق، ثم التسبيخ وهو أشد النوم"، فيما يرى الشيخ الكرباسي أن مراحل النوم هي: "كرى فخفقة تدل على النعاس تتلوها سِنة فغفوة فنوم فرقاد فسبات".
بين منزلتين
وبشكل عام فان النوم ينظر إليه العلماء من منظار خلفياتهم العلمية، وهذا ما يبحثه المؤلف تحت عنوان "النوم .. تعريفه"، فهو: "غشية ثقيلة تهجم على القلب فتبطل عمل الحواس"، وهو: "الغالب على القلب والسمع والبصر"، وهو: "المبطل للوضوء"، وهو: "الركود الذي تأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية في بدنه"، وهو: "الغيبة عن المحسوسات الظاهرة"، وبتعبير لقمان الحكيم: "إنما النوم بمنزلة الموت وإنما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت"، وبتعبير المؤلف: "حالة صحية تعتري الإنسان عادة بعد عناء النهار"، وقد يعترض النوم الإنسان لأسباب مرضية أو طبية أو كيمياوية أو نفسية مثل التنويم المغناطيسي، كما إن النوم حالة يشترك مع الإنسان الحيوان والنبات.
والفترة الطبيعية للنوم هو الليل الذي يستريح فيه الإنسان من عناء العمل في النهار، وهذه سنّة الحياة، كما يقول الرب الجليل في الآية 61 من سورة غافر: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا)، وقد وضع العلماء للنوم في ساعات النهار أسماء عدة حسب الوقت، فهناك: نوم العيلولة ووقته بين طلوع الفجر والشمس، وهذا النوم يورث الفقر والنكد، ونوم الفيلولة وهو بعد طلوع الشمس وهذا يورث الضعف والفتور، ونوم القيلولة وهو قبل زوال الشمس، وهو ممدوح يجعل المرء يستعيد نشاطه من جديد، ونوم الحيلولة وهو بعد الزوال وهو غير محبذ، ونوم الغيلولة وهو قبل غروب الشمس وهو مذموم يورث الوهن والكسل.
نظريات ومرويات
وتحت عنوان "دورة النوم واليقظة في الأحياء"، يشرح المصنف مراحل النوم وساعاته للفئات العمرية، جامعا بين العلم والشرع. ثم يقدم تحت عنوان "نظرة العلم الحديث إلى النوم" شروحات حول أسباب النوم وعوامله من الناحية الفسيولوجية مستخدما رسومات بيانية لمعرفة الموقف الطبي والعلمي لكل نظرية، ويقدم فهمه للنظرية فيقف مع واحدة ويخالف أخرى ويصحح ثالثة، فهناك: نظرية التسمم الذاتي أو "النظرية الكيمياوية"، ونظرية مركز النوم العصبي أو "النظرية العصبية"، ونظرية شبكة النوم واليقظة أو "النظرية الشبكية"، ونظرية التوعية الدموية أو "النظرية الفيزياوية"، ونظرية الإثارة والكف أو "النظرية التذبذبية"، ونظرية النوم عادة وراثية أو "النظرية الوراثية"، ونظرية القوة الروحية أو "النظرية الروحية". ولكن رغم النظريات الكثيرة لمعرفة "حقيقة النوم" فإنها كما يقول المؤلف: "وإن لم تكن بعيدة عن حقيقته إلا أنها ليست حقيقته تماما، وإنما هي أمور ملازمة له وأدوات مسيرة لعملية النوم واليقظة"، غير انه من الثابت أن "الهدف من النوم" هو الخلود إلى الراحة واسترجاع القوى المنهارة، كما في الحديث المروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148 هـ): "الكرى يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام قواه"، فهناك استراحة لخلايا هدّها العمل وبناء لأنسجة أعياها النهار.
والنوم الطبيعي لا يأتي فجأة ومرة واحدة، كما إن حالة النوم نفسها فيها مراحل وأشواط يقطعها النائم لا يشعر بها، أثبتتها التجارب العلمية، ولذلك يرى المؤلف وبملاحظة الشروحات الطبية المسندة بالرسوم البيانية أن النائم يقطع خمس مراحل، تبدأ بالمرحلة الأولى "التمهيدية" وتنتهي بمرحلة "النوم الأعمق" وما بينهما "النوم الخفيف" و"النوم المتوسط" و"النوم العميق" وهناك "نوم غير مألوف" يُشكل مرحلة سادسة، وهذه الدورة من النوم تتكرر في الليلة الواحدة بين 4 إلى 6 تتخللها يقظات، ومعظم الأحلام تحصل في الدقائق ربما في الثواني الأخيرة قبل اليقظة. كما إن لطريقة الاستلقاء دورها في تحقق الأحلام ونوعها، وأثرها على الصحة البدنية سلبا وإيجاباً، ويتحدد الإنسان بأربعة أشكال من النوم على البطن والظهر والجانبين الأيسر والأيمن، وغير ذلك فإنها غير طبيعية، ويحاول المؤلف أن يسترشد بالطب وبالمرويات وبالتجربة في بيان "الطريقة المثلى للنوم" لتحقيق راحة الجسم ومشاهدة أحلام سعيدة أو رؤيا صادقة، وأفضل أنواع النوم هو على الجانب الأيمن، وهو نوم النبي محمد (ص) حيث كان ينام على الجهة اليمنى ويضع خده على كفه الأيمن، ومن المرويات في هذا الإطار نصيحة الإمام علي بن موسى الرضا (ع) (148-203 هـ) للمأمون العباسي (170-218 هـ) يقول فيها: (إن النوم سلطان الدماغ وهو قوام الجسد وقوته فإذا أردت النوم فليكن اضطجاعك أولا على شقك الأيمن ثم انقلب إلى الأيسر وكذلك فقم من مضجعك على شقك الأيمن كما بدأت به عند نومك وعوّد نفسك القعود من الليل ساعتين وادخل الخلاء لحاجة الإنسان والبث فيه بقدر ما تنقضي حاجتك ولا تطل فيه فإن ذلك يورث داء الفيل) أي ورم وتصلبات في الساق والقدم.
حقيقة التنويم المغناطيسي
ويشكل "التنويم المغناطيسي" أو "النوم بالإيحاء" محورا آخر من النوم، له استخدامات عدة، وقائم على الإيحاء وقدرة المنوم أو الطرف المؤثر على تسليط إرادته على النائم أو إخضاع إرادة النائم إليه، أي: "إخضاع الطرف الآخر للنوم بواسطة الإيحاء، وبتعبير آخر التأثير عليه عبر أمواج مغنطية يوجهها المنوِّم إليه"، والعملية بمجموعها تمثل حسب تعبير الشيخ الكرباسي: "سلطة ذي الإرادة الأقوى على ذي الإرادة الأضعف".
ويعود "تاريخ التنويم المغناطيسي" إلى زمن سحيق، قيل بدأ مع خلق الإنسان، وقيل: "انه يعود إلى الكلدانيين والبابليين والإغريق وغيرهم، ولكنه لم يكن معروفا بهذا الاسم وقد استخدمه بعض علماء المسلمين وغيرهم ضمن علم السحر تارة، وعلم الطب تارة أخرى، وقد عبروا عنه بالتسخير"، فهو: "تسخير الروح الإنساني في حال حياة جسمه، وأداته الإيحاء وأثره الطاعة"، ويشار إلى الفيزيائي النمساوي، فرانز انطون مسمر () (1734-1815م)، بأنه أثبت علميا في العام 1775م هذا النوع من النوم وحيثياته، واعتبر أن في الإنسان سيالا مغناطيسيا له أثره في تنويمه، وكان الفيزيائي الإنكليزي الدكتور جيمس بريد () (1795-1860م)، أول من أطلق عليه في العام 1841م إسم "hypnotic trance"، أي الغشية المغناطيسية أو التنويم المغناطيسي كما هو المشهور، ويسمى "Hypnotic State" أيضا، وهي كلمة مشتقة من كلمة "Hypnosis" اليونانية والتي تعني النوم.
ومن الناحية الشرعية فان الفقيه الكرباسي يرى: "أن التنويم المغناطيسي بما انه نوع اصطناعي فلا يجوز شرعا استخدامه إلا لحالات استثنائية علاجية" وهذا يقودنا إلى مسألة شرعية أخرى: "أن المنوِّم إذا قام بعملية التنويم من غير رضا الطرف الآخر فإذا اقترف شيئا فهو المسؤول عن تلك الأعمال ويعاقب دون النائم، وأما إذا كان برضاه فكلاهما مسؤولان..".
الوحي في القرآن والسنة
ولما كان الوحي من مفردات الرؤيا، فان المؤلف شرحه في مبحث مستقل، ذلك أن الوحي من حيث اللغة والاصطلاح هو: "كل ما ألقي إلى الغير ليعلمه كيف كان، ثم غلب الوحي عند المتشرعة فيما يلقى إلى الأنبياء من عند الله تعالى. ومنهم من قال أن الوحي هو إعلام في خفاء. وربما أطلق الوحي وأريد منه الموحى أي اسم المفعول، فيكون عند المتشرعة هو كلام الله المنزل على أنبيائه".
والوحي كما جاء في القرآن المجيد فهو يشير إلى معان عدة، فهو: الإلهام أو التسخير: (وأوحى ربك إلى النحل) سورة النحل: 68، ومن الإلهام الإلقاء: (وأوحينا إلى أم موسى) سورة القصص: 7، والوحي يعني الإشارة بأية واسطة: (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) سورة مريم:11، والوحي يشير إلى التحدث: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا) سورة الشورى: 51، كما إن من هذا الوحي: "رؤيا الأنبياء دون غيرهم.. وألحقوا بذلك رؤيا الأئمة الأطهار من آل الرسول"، ويرى الشيخ المفيد العكبري البغدادي (338-413 هـ) إن: "أصل الوحي الكلام الخفي ثم يطلق على كل شيء قصد به إفهام المخاطب على السرّ له على غيره، والتخصص له به دون من سواه وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل خاصة دون سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي".
وينتقل المؤلف من الوحي إلى "الإرادة" ودورها ببعض أنواع التنويم ليدخل إلى المبحث الرئيس الذي انعقدت عليه لحمة كتاب "الرؤيا مشاهدات وتأويل"، فيبدأ ببحث "الرؤيا في اللغة والإصطلاح"، فالكلمة مشتقة من الرأي، والفعل منها يقع عبر ثلاث قنوات: العين والعقل والروح، فان استخدم العين كان بمعنى شاهد، وان استخدم العقل كان بمعنى اعتقد، وان استخدم الروح كان بمعنى حَلَمَ. ومن مرادفات الرؤيا الحلم والمنام، وعند المقارنة بين الألفاظ الثلاثة أمكن القول: "في الغالب يستعمل المنام في مطلق ما يراه النائم، والحلم فيما لم يكن صادقا، والرؤيا فيما إذا كان صادقاً".
ومن التعريف العام ينتقل المؤلف إلى بيان "الرؤيا في القرآن"، وعدها سبعة، فهي رؤيا النبي إبراهيم (ع) في ذبح ابنه إسماعيل (ع) والنبي يوسف (ع) وسجود أهله له، ورؤيا من سجن مع يوسف (ع)، ورؤيا عزيز مصر في قحط بلاده، ورؤيا الرسول محمد (ص) في غزوة بدر، ورؤياه (ص) في دخول مكة، ورؤياه (ص) في إعتلاء بني أمية منبره وهم على شكل قردة على قول بعض المفسرين. ومن القرآن ينتقل المؤلف إلى "الرؤيا في الحديث"، فقد ورد عن النبي محمد (ص): (خياركم أولو النهى. قيل يا رسول الله ومن أولو النهى؟ فقال: أولو النهى أولو الأحلام الصادقة)، ويستنتج المحقق الكرباسي من الحديث: "أن نوعية الرؤيا ترتبط بمدى المكانة العلمية لصاحب الرؤيا إذ أن أرباب العقول الكاملة بعيدون عن الهلوسة والأضغاث"، وقد ميز الإمام جعفر الصادق (ع) بين الرؤى والأحلام في حديث طويل، منه: (أما الكاذبة المخلفة فان الرجل يراها في أول ليلة .. وأما الصادقة إذا رآها بعد الثلثين من الليل ... وذلك قبل السحر فهي صادقة لا تخلف إن شاء الله إلا أن يكون جنبا أو يكون على غير طهر أو لم يذكر الله عزل وجل حقيقة ذكره فإنها تخلف وتبطئ على صاحبها).
الحلم سريرة المرء
وينتقل المؤلف إلى تفاصيل "حقيقة الرؤيا" القائمة على عضادتي الاستقبال والبث، ويعتقد أن: "الداعي إلى الرؤيا قد يكون القلق النفسي أو الطموح، أو الخبر المسموع، أو المشاهدات أو التخيلات أو الأفكار، أو رؤى سابقة على هذه الرؤيا إلى غيرها من أمور تكون مصدرا من مصادر الرؤيا، وقد تكون هناك عوامل جسمية وأمراض وعقاقير استعملها الإنسان في اليقظة..". وقد اختلف العلماء في تصنيف حقيقة الرؤيا وهي لا تخلو من تصنيف روحي وآخر مادي، وقد أورد المؤلف آراء عدة لفلاسفة وعلماء وأطباء، ويرى بعضهم أن الأحلام كاشفة عما في سريرة المرء ولهذا قال قائلهم "خبّرني بأحلامك أخبرك ما دخيلتك".
كما إن الروح هي الكاشفة عن رؤى المستقبل وهي الكاشفة عن الماضي: "لأن الروح بإمكانها رؤية المستقبل بل الماضي لشفافيتها وتمكنها من أقامة الاتصالات..". ولهذا يستقل المؤلف ببحث خاص عن "الروح" والتي يقول عنها الإمام جعفر الصادق (ع) في وصفها: (إن الأرواح لا تمازج البدن ولا تواكله وإنما هي كلل للبدن محيطة به)، ويرى المصنف وجود سنخية بين روحي الإنس والجن، وتأثير ذلك على بعض أجزاء الرؤيا من خلال قنوات اتصال بين روح الإنس وروح الجن، ولهذا عندما سأل نصرانيان الإمام علي (ع) عن الرؤيا الكاذبة والصادقة قال في حديث طويل: (إن الله تعالى خلق الروح وجعل لها سلطانا فسلطانها النفس، فإذا نام العبد خرج الروح وبقي سلطانه فيمر به جيل من الملائكة وجيل من الجن ..).
والحديث عن الرؤيا يقود إلى الحديث عن "النفس" وهي حاصل ارتباط الروح بالجسم عبر شفرة إلهية، كما إن: "النفس يمكن تنميتها لتصل إلى أعلى درجات الكمال، وهي أيضا يمكنها أن تتلون بالعديد من الألوان، وهي كذلك تموت بفك الارتباط، كما إنها تأتي بإعادة الارتباط" وموطنها القلب، ولها علاقة بالإرادة.
كما إن الحديث عن الروح والنفس والإرادة يقود إلى الحديث عن "العقل" بوصفه القوة التي تقيّم الأمور وتزنها وتختار ما هو الأنسب والأصح في الموقع المناسب، وكما يقول النبي محمد (ص): (إنما يدرك الخير كله بالعقل) وقوله (ص): (قوام المرء عقله)، والعقل منبع الأفكار كما يقول الإمام علي (ص): (العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب –النفس- والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء)، والتكليف الإلهي مرتبط بالعقل، كما إن الفكر يستمر في نشاطه حال النوم، وهو ما يبحثه المؤلف بقراءة علمية وطبية لمخطط الدماغ، وتأثير هذا النشاط على الأحلام ورؤيتها.
ومن آثار رباعية الروح والنفس والإرادة والعقل "الحاسة السادسة" والتي هي نتاج "إدراك يحصل خارج دائرة الحواس الخمس الظاهرة أو الباطنة"، وبهذه الحاسة يتوصل الإنسان إلى حقائق قبل حدوثها، وهنا تتحد الحاسة السادسة مع الرؤيا الصادقة من حيث النتيجة.
شروط الرؤيا الصادقة
والرؤى منها الصادقة ومنها دون ذلك وهي أضغاث أحلام، ويشترط في الصادقة: راحة المعدة، راحة النفس، راحة الجسد، الخلو من الأمراض، النوم المتوسط، انعدام الإثارة، عدم استخدام وسائل خارجية، صلاح السريرة، النوم المنتظم، وأخيرا النوم على الطهارة وبخاصة الجنابة. وإذا تحققت هذه الشروط تحققت الرؤية الصادقة، وبغير ذلك تصاعدت الأحلام الكاذبة أو ما يعبر عنها بالوسوسة الشيطانية، كتصاعد الدخان.
على انه "يجوز في الرؤيا ما لا يجوز في اليقظة"، فالرؤيا تختلف عن واقع اليقظة بأمور كثيرة منها:
- البعد الزماني: أي سرعة الزمان، حيث يقطع المرء المسافات البعيدة في لحظات.
- الاتجاه الزماني: أي الماضي والمستقبل، فلا تعد هناك حواجز لانتقال المرء بين الماضي والمستقبل.
- تناسخ الأرواح: حيث يتحقق تناسخ أرواح البشر في الحيوانات.
- الحلول: حيث يحل الشيء في شيء آخر.
- الاختزال: حيث يختزل الحلم الوقائع كاختزال الفيلم أو الكتاب.
- خفة الحركة: حيث يحلق المرء بما يشبه انعدام الجاذبية على الأرض أو الكون.
- العمل بالمستحيل: حيث يباح العمل في عالم الرؤيا ما لا تبحه قوانين الطبيعة.
- الدمج: وقد تستخدم في الرؤيا حركة اليقظة مع صورة النوم.
- وبشكل عام: "إن حقائق الرؤيا لا تختلف عن حقائق اليقظة إلا إن متعلقاتها تختلف، فلم يؤت في الرؤيا حقيقة لم نعرفها في اليقظة بل إن الحقائق تتبادل على أرضية متعلقاتها، فالطيران مثلا موجود في اليقظة لا أن الإنسان يطير بل الحمام هو الذي يطير، وهكذا..".
وكما إن لعموم الرؤيا شروطها، فان لـ "نسيان الرؤيا" عواملها أيضا، وهي لا تخلو من: الاستيقاظ أو الإيقاظ المفاجئ، وضعف جهاز التخزين، وانعدام التفاعل مع الرؤيا، وانشغال البال، وكثرة المعلومات المودعة، وكثرة الرؤيا، والمرض، أخيرا تحقق الأجواء غير المناسبة من تعب ونوم على شبع مفرط ومرض وغير ذلك.
ويتناول الكتاب قبل أن يدخل في صلبه، الحالة البرزخية "بين اليقظة والنوم" حيث يرى المرء ما يراه النائم، وهي حالة: "خارجة من السيطرة الكاملة لقوة الشعور وأصبحت تسبح في فلك اللاشعور" ويعبر عنها بين الألسنة "كنت بين النائم واليقظان"، والحالة البرزخية فترة خصبة يستعين بها بعض المتصوفة في إجراء: "طقوسهم العملية، أو إلهاماتهم المزعومة".
بعد هذه المقدمة العلمية المستفيضة في مجريات عالم النوم، يدخل المؤلف في تناول ثلاثة أنواع من الرؤى على ارتباط من قريب أو بعيد بالإمام الحسين (ع)، فالقسم الأول خاص بالرؤيا التي رآها الإمام الحسين (ع)، وهي 12 رؤية، والقسم الثاني رؤى رآها آخرون أثناء حياة الإمام الحسين (ع) وهي 22 رؤية، والقسم الأخير رؤى رآها آخرون بعد استشهاد الإمام الحسين العام 61 هـ حتى العام 260 هـ وفيه غاب الإمام الحجة المنتظر عن الأنظار في غيبته الصغرى، وهي 41 رؤية.
جهد متميز
وامتاز عمل المؤلف في تصنيفه للرؤى، بأن أعمل جهده عند ترقيمها وترتيبها وبيان زمن وقوعها باليوم والشهر والسنة، وتحديد مكان حصول الرؤيا وضبط نص الرؤيا، وبيان مقتضيات الرؤيا. وفي تعبير الرؤيا اعتمد المصنف في ذلك على ما موجود من نصوص مفسرة تضمنتها روايات النبي (ص) وأهل بيته (ع)، أو استخدام المفردة في التعبير عن احد المعصومين (ع)، أو استخدامها من قبل أرباب التعبير، أو استخدامها في أمثالها من قبل العلماء، أو اشتهار ذلك وشيوعه، واستنباط ذلك من الأصول اللغوية أو الممارسات العملية.
كما إن القارئ ليس بحاجة لأن يصعد مراق صعبة في تسقّط المعلومة من بين ثنايا الكتاب، فان الفهارس المتعددة الأغراض سُلّمه إلى قاعدة البيانات والمعلومات، ولذلك فقد ضم هذا الجزء الفهارس التالية: فهرس الآيات المباركة، الأحاديث والأخبار، الأمثال والحكم، الأعلام والشخصيات، القبائل والأنساب والجماعات، الطوائف والملل، الأِشعار، التأريخ، الرؤى، الفهرس اللغوي، مصطلحات الشريعة، المصطلحات العلمية والفنية، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحيوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، فهرس مؤلفي المراجع، بالإضافة إلى فهرس محتويات الكتاب ومندرجاته.
وفي خاتمة الكتاب قدمت البروفيسورة في الشؤون الإسلامية في جامعة كونكورديا في مونتريال، المستشرقة الكندية ليندا كلارك ، قراءة نقدية، تعرضت فيها إلى مفهوم الرؤى في الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده، ولاحظت أن: "المؤلف يصنف كلا من هذه الرؤى على إنها إما واضحة وحرفية، أو تتطلب تفسيرا، وأينما تطلبته الرؤى تعبيرا، فان معاني الرموز الفردية ومعاني الرؤية ككل، سيتم شرحها مستعملا أبعد ما يمكن من مفاتيح أعطيت مسبقا عبر الوصايا الشفهية"، وكان للعرض الجديد والمتميز الذي قدمه الدكتور محمد صادق الكرباسي في فهم النوم والأحلام، أثره الكبير في قلب البروفيسورة ليندا كلارك، ما حدا بها الى تقديم محاضرات من وحي الكتاب في عدد جامعات كندا والمملكة المتحدة.